سورة الأنبياء - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)}
قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً} يريد مدائن كانت باليمن.
وقال أهل التفسير والاخبار: إنه أراد أهل حضور وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له ضنن كثير الثلج، وليس بشعيب صاحب مدين، لان قصة حضور قبل مدة عيسى عليه السلام، وبعد مئين من السنين من مدة سليمان عليه السلام، وأنهم قتلوا نبيهم وقتل أصحاب الرس في ذلك التاريخ نبيا لهم اسمه حنظلة بن صفوان، وكانت حضور بأرض الحجاز من ناحية الشام، فأوحى الله إلى أرميا أن ايت بخت نصر فأعلمه أني قد سلطته على أرض العرب وأني منتقم بك منهم، وأوحى الله إلى أرميا أن أحمل معد بن عدنان على البراق إلى أرض العراق، كي لا تصيبه النقمة والبلاء معهم، فإني مستخرج من صلبه نبيا في آخر الزمان اسمه محمد، فحمل معد وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فكان مع بني إسرائيل إلى أن كبر وتزوج امرأة اسمها معانة، ثم إن بخت نصر نهض بالجيوش، وكمن للعرب في مكان- وهو أول من اتخذ المكامن فيما ذكروا- ثم شن الغارات على حضور فقتل وسبى وخرب العامر، ولم يترك بحضور أثرا، ثم انصرف راجعا إلى السواد. و{كَمْ} في موضع نصب بـ {قَصَمْنا}. والقصم الكسر، يقال: قصمت ظهر فلان وانقصمت سنه إذا انكسرت والمعنى به هاهنا الإهلاك. وأما الفصم بالفاء فهو الصدع في الشيء من غير بينونة، قال الشاعر:
كأنه دملج من فضة نبه *** في ملعب من عذارى الحي مفصوم
ومنه الحديث: «فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا». وقوله: {كانَتْ ظالِمَةً} أي كافرة، يعني أهلها. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهم وضعوا الكفر موضع الايمان. {وَأَنْشَأْنا} أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم {قَوْماً آخَرِينَ}. {فَلَمَّا أَحَسُّوا} أي رأوا عذابنا، يقال: أحسست منه ضعفا.
وقال الأخفش: {أَحَسُّوا} خافوا وتوقعوا. {إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ} أي يهربون ويفرون. والركض العدو بشدة الوطي. والركض تحريك الرجل، ومنه قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] وركضت الفرس برجلي استحثته ليعدو ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا وليس بالأصل، والصواب ركض الفرس على ما لم يسم فاعله فهو مركوض. {لا تَرْكُضُوا} أي لا تفروا.
وقيل: إن الملائكة نادتهم لما انهزموا استهزاء بهم وقالت: {لا تَرْكُضُوا}. {وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم، والمترف المتنعم، يقال: أترف على فلان أي وسع عليه في معاشه. وإنما أترفهم الله عز وجل كما قال: {وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} [المؤمنون: 33]. {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} أي لعلكم تسألون شيئا من دنياكم، استهزاء بهم، قاله قتادة.
وقيل: المعنى {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به.
وقيل: المعنى {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} أي تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول البأس بكم، قيل لهم ذلك استهزاء وتقريعا وتوبيخا. {قالُوا يا وَيْلَنا} لما قالت لهم الملائكة: {لا تَرْكُضُوا} ونادت يا لثارات الأنبياء! ولم يروا شخصا يكلمهم عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط عليهم عدوهم بقتلهم النبي الذي بعث فيهم، فعند ذلك قالوا {يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ} فاعترفوا بأنهم ظلموا حين لا ينفع الاعتراف. {فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ} أي لم يزالوا يقولون: {يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ}. {حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً} أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل، قاله مجاهد.
وقال الحسن: أي بالعذاب. {خامِدِينَ} أي ميتين. والخمود الهمود كخمود النار إذا طفئت فشبه خمود الحياة بخمود النار كما يقال لمن مات قد طفئ تشبيها بانطفاء النار.


{وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)}
قوله تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ} أي عبثا وباطلا، بل للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أمره، وأنه يجازي المسيء والمحسن أي ما خلقنا السماء والأرض ليظلم بعض الناس بعضا ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به ثم يموتوا ولا يجازوا، ولا يؤمروا في الدنيا بحسن ولا ينهوا عن قبيح. وهذا اللعب المنفي عن الحكيم ضده الحكمة. قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً} لما أعتقد قوم أن له ولدا قال: {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً} واللهو المرأة بلغة اليمن، قاله قتادة.
وقال عقبة بن أبي جسرة- وجاء طاوس وعطاء ومجاهد يسألونه عن قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً}- فقال: اللهو الزوجة، وقاله الحسن.
وقال ابن عباس: اللهو الولد، وقاله الحسن أيضا. قال الجوهري: وقد يكنى باللهو عن الجماع. قلت: ومنه قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني *** كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي
وإنما سمي الجماع لهوا لأنه ملهى للقلب، كما قال:
وفيهن ملهى للصديق ومنظر ***
الجوهري- وقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً} قالوا امرأة ويقال: ولدا. {لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا} أي من عندنا لا من عندكم. قال ابن جريج: من أهل السماء لا من أهل الأرض. قيل: أراد الرد على من قال إن الأصنام بنات الله، أي كيف يكون منحوتكم ولدا لنا.
وقال ابن قتيبة: الآية رد على النصارى. {إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ} قال قتادة ومقاتل وابن. جريج والحسن: المعنى ما كنا فاعلين، مثل {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 23] أي ما أنت إلا نذير. و{أَنْ} بمعنى الجحد وتم الكلام عند قوله: {لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا}.
وقيل: إنه على معنى الشرط، أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد، إذ لو كان ذلك لم نخلق جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا.
وقيل: لو أردنا أن نتخذ ولدا على طريق التبني لاتخذناه من عندنا من الملائكة. ومال إلى هذا قوم، لان الإرادة قد تتعلق بالتبني فأما اتخاذ الولد فهو محال، والإرادة لا تتعلق بالمستحيل، ذكره القشيري. قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ} القذف الرمي، أي نرمي بالحق على الباطل. {فَيَدْمَغُهُ} أي يقهره ويهلكه. واصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، ومنه الدامغة. والحق هنا القرآن، والباطل الشيطان في قول مجاهد، قال: وكل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان.
وقيل: الباطل كذبهم ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته من الولد وغيره.
وقيل: أراد بالحق الحجة، وبالباطل شبههم.
وقيل: الحق المواعظ، والباطل المعاصي، والمعنى متقارب. والقرآن يتضمن الحجة والموعظة. {فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} أي هالك وتالف، قاله قتادة. {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم الرب بما لا يجوز وصفه.
وقال ابن عباس: الويل واد في جهنم، وقد تقدم. {مِمَّا تَصِفُونَ} أي مما تكذبون، عن قتادة ومجاهد، نظيره: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] أي بكذبهم.
وقيل: مما تصفون الله به من المحال وهو اتخاذه سبحانه الولد.


{وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)}
قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي ملكا وخلقا فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبده وخلقه. {وَمَنْ عِنْدَهُ} يعني الملائكة الذين ذكرتم أنهم بنات الله. {لا يَسْتَكْبِرُونَ} أي لا يأنفون {عَنْ عِبادَتِهِ} والتذلل له. {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} أي يعيون، قاله قتادة. مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالإعياء والتعب، يقال: حسر البعير يحسر حسورا أعيا وكل، واستحسر وتحسر مثله، وحسرته أنا حسرا يتعدى ولا يتعدى، وأحسرته أيضا فهو حسير.
وقال ابن زيد: لا يملون. ابن عباس: لا يستنكفون.
وقال أبو زيد: لا يكلون.
وقيل: لا يفشلون، ذكره ابن الاعرابي، والمعنى واحد. {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} 20 أي يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما. {لا يَفْتُرُونَ} 20 أي لا يضعفون ولا يسأمون، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس. قال عبد الله بن الحرث سألت كعبا فقلت: أما لهم شغل عن التسبيح؟ أما يشغلهم عنه شي؟ فقال: من هذا؟ فقلت: من بني عبد المطلب، فضمني إليه وقال: يا ابن أخي هل يشغلك شيء عن النفس؟! إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن الملائكة أفضل من بني آدم. وقد تقدم والحمد لله. قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} قال المفضل: مقصود هذا الاستفهام الجحد، أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الأحياء.
وقيل: {أَمِ} بمعنى {هل} أي هل أتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى. ولا تكون {أَمِ} هنا بمعنى بل، لان ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدر {أم} مع الاستفهام فتكون {أم} المنقطعة فيصح المعنى، قاله المبرد.
وقيل: {أَمِ} عطف على المعنى أي أفخلقنا السماء والأرض لعبا، أو هذا الذي أضافوه إلينا من عندنا فيكون لهم موضع شبهة؟ أو هل ما اتخذوه من الآلهة في الأرض يحيى الموتى فيكون موضع شبهة؟.
وقيل: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ 10} [الأنبياء: 10] ثم عطف عليه بالمعاتبة، وعلى هذين التأويلين تكون {أم} متصلة. وقرأ الجمهور: {يُنْشِرُونَ} بضم الياء وكسر الشين من أنشر الله الميت فنشر أي أحياه فحيي. وقرأ الحسن: بفتح الياء، أي يحيون ولا يموتون.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8